جرينلاند تحت الجليد صراع القوى العظمى على بوابة القطب الشمالي


لطالما شكلت جزيرة "جرينلاند" واحدة من أكثر النقاط الاستراتيجية حساسية في العالم، لا بسبب موقعها الجغرافي فحسب، بل لما تختزنه أراضيها المتجمدة من ثروات طبيعية هائلة ربـما تغيّر موازين القوى العالمية في العقود المقبلة. مع تسارع وتيرة ذوبان الجليد نتيجة للتغير المناخي، تعود الجزيرة إلى الواجهة السياسية من جديد، لتصبح ساحة مفتوحة لصراع النفوذ بين القوى العظمى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، وخصميها المتصاعدين: روسيا والصين.

في عام 2019، فجّر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مفاجأة مدوية عندما عبّر صراحة عن رغبته في شراء جزيرة جرينلاند من مملكة الدنمارك. بدا هذا الطرح في بادئ الأمر وكأنه مزحة سياسية أو استعراض إعلامي، لكن سرعان ما تبيّن أن الفكرة لم تكن وليدة اللحظة، بل امتداد لحلم أمريكي قديم يعود إلى نحو 79 عامًا، حين حاولت واشنطن لأول مرة الاستحواذ على هذه الجزيرة الاستراتيجية. واللافت أن ترامب لم يكن يتحدث من فراغ، بل من منطلق إدراكه لأهمية جرينلاند المتزايدة في خريطة التوازنات الدولية، خصوصًا في ظل الاهتمام المتصاعد بممرات القطب الشمالي التي يُتوقع أن تصبح شريانًا اقتصاديًا وتجاريًا رئيسيًا في المستقبل القريب.

ورغم السخرية التي صاحبت هذا الطرح، إلا أن التساؤلات حول النوايا الأمريكية الحقيقية لم تختفِ، بل تصاعدت مع استمرار واشنطن في تعزيز وجودها العسكري في المنطقة، وإبداءها استعدادًا لتوظيف جميع الوسائل، بما فيها القوة، لحماية ما تعتبره مصالح استراتيجية عليا. يأتي هذا في وقت تزداد فيه المخاوف الأمريكية من تمدد النفوذ الروسي في القطب الشمالي، بالتوازي مع طموحات الصين التي تضع عينها على المنطقة ضمن مشروع "الحزام والطريق القطبي".

لكن في مقابل هذه الأطماع، تقف جرينلاند بموقفها الحذر، محافظة على توازنها الدقيق بين تبعيتها الرسمية للدنمارك وسعيها المتنامي نحو تعزيز استقلالها الذاتي. فالجزيرة التي تعد أكبر جزيرة غير قارية في العالم، ويبلغ عدد سكانها نحو 56 ألف نسمة فقط، تخضع لحكم محلي يتمتع بسلطات متسـعة، فيما لا تزال تُعتبر جزءًا من المملكة الدنماركية وترتبط بها سياسيًا وثقافيًا منذ قرون طويلة. السكان المحليون الذين يطلقون على أرضهم اسم "كالاليت نونات" أي "أرض الشعب"، يُظهرون رغبة في تعزيز هويتهم الخاصة، ولكن دون الانفصال التام عن الدنمارك في الوقت الراهن.

وتكمن خصوصية جرينلاند في مزيج نادر من الجغرافيا والجيولوجيا والسياسة فهي ليست فقط بوابة بحرية مطلة على شمال المحيط الأطلسي والمحيط المتجمد الشمالي، بل أيضًا مستودع ضخم لثروات نادرة، كالمعادن الأرضية النادرة، والنفط، والغاز، فضلاً عن دورها المحتمل في شبكات الملاحة البحرية الجديدة التي ربـما تختصر طرق التجارة العالمية في حال ذوبان الجليد بشكل أكبر.

في ظل هذا المشهد المعقد، يرى محللون أن محاولات واشنطن، خاصة خلال فترة حكم ترامب، كانت تعبيرًا عن منطق استعماري عفا عليه الزمن، مؤكدين أن العالم اليوم لم يعد كما كان في السابق، وأن الشعوب، مهما صغر عددها، ترفض أن تكون سلعة في سوق المصالح الدولية.

وهكذا تبقى جزيرة جرينلاند، رغم هدوء جليدها، واحدة من أكثر المناطق سخونة على خارطة الصراع الجيوسياسي العالمي، وساحة مفتوحة أمام طموحات القوى الكبرى، التي ترى في هذه الأرض المتجمدة بوابة المستقبل وثروات الغد. والسؤال الذي يفرض نفسه: هل ستتمكن جرينلاند من الحفاظ على استقلال قرارها، أم أن الضغوط العالمية ستجعلها رقعة شطرنج جديدة في لعبة النفوذ بين الشرق والغرب

تعديل

جرينلاند تحت الجليد صراع القوى العظمى على بوابة القطب الشمالي
آخر الأخبار

جميع الحقوق محفوظة لموقع امجدل التعليمي الشامل

Copyright ©2019-2025, medjedel.com