في مدينة صغيرة يغلفها طابع محافظ، نشأ أحمد شابًا طموحًا، يحمل قلبًا ممتلئًا بالأحلام والتطلعات، يراوده الأمل كلما بزغت شمس الصباح، ويقوده الطموح إلى رسم ملامح مستقبل مشرق في خياله. إلا أن قلبه، رغم ازدحامه بالآمال، خبئ سرًا ثقيلًا أثقل من كل تلك الطموحات. لقد أحب. لم يكن حبه عابرًا ولا نزوة مؤقتة كما يتهم الشباب أحيانًا، بل كان حبًا نقيًا، متجذرًا في أعماق روحه، مثل شجرة صامتة تنمو في صحراء قلبه، دون أن يراها أحد. أحب سارة، زميلته في الجامعة، الفتاة ذات الحجاب الأبيض كالنقاء، والوجه الذي يحمل هدوءًا وسكينة مشابهة لـ صباحات الشتاء. كانت مختلفة عن كل الفتيات، لا بابتسامتها الهادئة فحسب، بل بقلبها الذي شعر أحمد أنه لم يكن يشبه إلا قلبه هو. لم يكن بينهما سوى نظرات عابرة، ونقاشات أكاديمية مقتضبة، وحديث في حدود الزمالة المحترمة. مع ذلك، كانت تلك اللحظات العابرة تكفي لإشعال نار داخل قلبه لا تنطفئ. لم يلمس يدها، لم يبعث لها برسالة، لم يخرج معها ولو مرة، لكنه حبها بكل ما في القلب من صدق وخوف وقلق وشغف. لكن أحمد درك، وبشكل عميق، أن الحب في مجتمعه ليس بالأمر السهل. فمجتمعه المحافظ لا يسمح للعلاقات العاطفية أن تزدهر خارج إطار الزواج، والاقتراب من فتاة دون نية رسمية يُعد خروجًا على القيم التي تربّى عليها. هو نفسه نشأ على هذه التعاليم، وكان مؤمنًا بها، بل يعتبرها جزءًا من شخصيته. عرف أن الطريق الوحيد للوصول إلى قلب سارة بشكل نقي ومشروع هو الزواج. ولكنه كان لا يزال طالبًا، على أبواب التخرج، ولم تكن لديه وظيفة أو قدرة مادية تؤهله للزواج. عيش بين مطرقة الواقع وسندان القلب، بين ما يجب فعله وما يتمناه. قرر أن ينتظر. أن يصبر. أن يضع خطته: التخرج، ثم الحصول على وظيفة، ثم التقدم رسميًا لخطبتها. لكنه أدرك أيضًا أن الانتظار قد يكون عدوه الأكبر. ففي مجتمعه، لا تنتظر الفتيات طويلًا، ولا يُترك القطار واقفًا في المحطة. فتاة كـسارة، بأخلاقها وسمعتها، ستنهال عليها عروض الزواج، وربما في أي لحظة تُخطب لرجل آخر، دون أن يدري حتى. كان أحمد يعيش في دوامة من التناقضات. إن باح بمشاعره، قد يفتح بابًا لعلاقة غير مشروعة، وهو أمر يرفضه تمامًا، بل ويخاف أن يندم عليه. وإن سكت وانتظر، ربمـا يصحو ذات صباح ليجد أن قلبه خسر معركته في صمت، وأن سارة أصبحت لغيره، وأنه فقدها لأنه اختار الصمت. مرت الليالي ثقيلة، يملؤها التفكير والتردد. إلى أن جاءته ليلة طويلة، امتلأت بالحيرة والتأمل. جلس أحمد أمام والده، في لحظة اختلط فيها التوتر بالشجاعة، وقال بصوت خافت لكنه حازم: "أبي، أريد أن أخبرك بأمر مهم." لم يكن سهلًا عليه أن يتكلم، لكن الحب دفعه للكلام. فتح قلبه لوالده، واعترف له بكل شيء. لم يطلب أكثر من أن يتقدم له لخطبة سارة بشكل مبدئي، مجرد وعد، ليُحفظ له حقه، ويطرق بابها بكرامة قبل أن يُغلق. لم يكن يطلب زواجًا فوريًا، فقط إشارة بداية. خطوة أولى نحو طريق طويل. لكن السؤال الذي ظل يلاحقه لم يكن قد حُسم بعد: هل سيوافق والد سارة على خطوبة شاب لم يتخرج بعد؟ وهل سيرى فيه رجلًا يستحق ابنته، أم يرفضه بحجة أنه لا يزال يقف على عتبة الحياة؟ أم أن القدر يُخفي لهما مسارًا مختلفًا، طريقًا لم يكن في الحسبان، وربما يحمل اختبارًا جديدًا لقلبين لم يعرفا سوى الحب النقي؟ ساد صمت قصير بعد أن أنهى أحمد كلماته، صمت ثقيل كأنه اختبار لصبر قلبه. نظر إليه والده مطولًا، وكأن عينيه تبحثان في وجه ابنه عن شيء ما. ربما عن صدق، عن نضج، عن خوف حقيقي أو محبة دفينة. أخيرًا تنهد الأب، وقال بهدوء: "أنت لا تزال بدايـة الطريق يا بني… لكنك تحدثت كرجل." جملة واحدة كانت كافية لتفتح داخل قلب أحمد نافذة صغيرة من أمل. لم يعارضه والده، لكنه أيضًا لم يعده بشيء. وعده فقط بالتفكير. قال له إن الزواج ليس فقط مشاعر، بل مسؤولية. وإن التقدم لخطبة فتاة يتطلب أكثر من حب، يتطلب استعدادًا، رجولة، موقفًا ثابتًا. مع ذلك، وعده أن يسأل عنها بطريقته الخاصة، من دون أن يُحرجها أو يُشعر أهلها بأي ضغط. مرت أيام ثقيلة، وكل دقيقة فيها كانت اختبارًا لصبر أحمد. لم يخبر أحدًا، لم يُلمّح بشيء، فقط انتظر. وفي يوم من الايام، عاد والده إلى البيت، جلس معه على انفراد، وقال له بصوت خافت: "سألت عنهم... أهلها طيبون، ووالدها رجل محترم." نظر إليه أحمد بسرعة، ملامحه تمتلئ بالرجاء. تابع والده: "لكنهم تلقوا عرض خطبة من شاب آخر. موظف، من عائلة معروفة، وأمورهم تسير في طريق الجدية." وكأن شيئًا ما انهار بداخله. شعر بأن الأرض تميد من تحته. لم يكن الخبر مفاجئًا تمامًا، لكنه لم يكن مستعدًا لسماعه. صمت طويل خيّم على المكان، فقط قلب أحمد صرخ بداخـله: هل تأخرت؟ في الليلة نفسها، خرج يمشي في شوارع المدينة التي يعرفها جيدًا، لكن كل زاوية فيها أصبحت غريبة. جلس في أحد الأماكن الهادئة، وأخرج من جيبه ورقة صغيرة، كان قد كتب فيها اسمها يومًا ما. لم يكن يعرف ما يفعل بها، لكنه نظر إليها طويلًا، ثم طواها ببطء، وكأن قلبه يُطوى معها. مرت أيام، وبدأ أحمد يحاول أن يدفن مشاعره تحت ركام الواقع. لم يكن سهلًا، ولم يكن سريعًا. لكنه حاول. غمر نفسه في الدراسة، ثم العمل، وحين تخرج كان أول من حضر المقابلات، وتلقى عرض عمل جيد، ربما لأن الحياة قررت أن تعوّضه بطريقة أخرى. وفي إحدى الأمسيات، وبعد عام من تلك الليلة التي فتح فيها قلبه لوالده، التقى مصادفة بصديق قديم من الجامعة. تبادلا التحيات، وتحدثا عن الحياة والعمل، ثم سأله أحمد بخفة: "هل تزوج أحد من زملائنا؟" ابتسم صديقه، وقال: "سارة… تذكرها؟… كادت أن تُخطب لكن الأمر لم يتم… تقول إنها كانت تستخير وتطلب من الله أن يُبعد عنها من لا خير فيه… ثم تركت الأمر كله لوقته." شعر أحمد أن قلبه عاد ليخفق بقوة، لكنها لم تكن خفقة حب طائش، بل خفقة رجاء ناضج. ربما، فقط ربما، لم يفت الأوان بعد. في تلك الليلة، عاد إلى البيت، نظر إلى والده بثبات هذه المرة، وقال: "أبي… أعتقد أن الوقت قد حان لنحاول مرة أخرى."
جميع الحقوق محفوظة لموقع امجدل التعليمي الشامل
Copyright ©2019-2025, medjedel.com